في صباح يوم جديد عندما أذنت الشمس لبدأ النهار وأعلنت العصافير لميلاد اليوم بزقزقتها وصفيرها من فوق الأشجار التي تصطف عليها، كان في أعلي الجبل حيث الارتفاع الشاهق والهواء النقي داخل مسكنه المحفور داخل الصخر بمناقير أجداده الحادة ولم يكن هذا الصقر قد تعلم الطيران بعد فهو مازال فرخ صغير بالكاد أستطاع اختراق جدران بيضته ليتحرر منها ويفرد جناحيه منذ زمن قصير
وعندما تقدم إلي حافة الجبل ومد نظره ليري الصقور الأخرى تخترق الهواء وتعتليه أبهره المشهد ولكنه لم يعرف بعد كيف يمتطي صهوة الهواء ولا كيف يشق طريقه داخله، فما لبث أن وجد أبيه ينتهره ويدفعه في الهواء بعنف حتى يضطر لفرد جناحيه وضرب الهواء بهما ليتعلم السباحة في بحر السماء ويتقن الارتفاع فوق أمواج السحاب
وعندما نجح في ترويض النسيم لكي يمر بين ريش جناحيه ليصبحا شراعين يشقان طريقهما بين التيارات وتوظيف قدميه ليكونا دفة لمتنه ودارت عيناه في وسط الطبيعة حتى أصبحت بوصلة هدايته، شعر أنه يتنفس هذا الهواء لأول مرة وكأن أيامه السابقة في العش لم يعشها، وبعد هذا اليوم الفارق في حياته كان يستحق بعض الراحة علي غصن شجرة نبتت علي حافة الجبل جذورها ممتدة داخل باطنه وفروعها ممتدة في سماءه
فأقترب منه أبيه وقال له:
- ها أنت أصبحت الآن قادرا علي جلب قوتك إذ أن منقارك قد صقل واشتد ومخالبك نمت واحتدت وغدا سنذهب جميعا إلي صيد اليمام
- فرد الصقر باستغراب: ولماذا اليمام؟!!
- أجابه أبوه: قد اعتدنا علي ذلك وقد ربانا من سبقونا علي ذلك
- لم أكن أتخيل أن طعامنا سيكون من جيراننا الذين حولنا خصوصا تلك الكائنات الرقيقة الهادئة التي تميل للهدوء والعزلة
- لا تنسي أن هذه الكائنات مناسبة لغذائنا لطيب لحمها ومسالمتها الزائدة فنضمن قليل من المقاومة
- وهل طيب لحمها ومسالمتها ذنب يجب أن تعاقب عليه بالقنص والأكل، وهل يعلمون إنهم يجاورون الصقور؟
- بالطبع، وارتضوا بذلك
- فماذا إذن وسائل دفاعهم واحتياطاتهم ضد هجماتنا؟!!
- أجنحتهم الخفيفة ورد فعلهم السريع، وعيونهم المتيقظة دائما
- تريد أن تقول لي أن هجماتنا قد تفشل؟
- هذا يحدث، فنضطر إلي اصطياد صغار الفراخ أو التقاط البيض الذي لم يفرخ بعد من أعشاشهم التي سريعا ما تتهدم ويذري قشها في الهواء
فنظر الصقر الصغير إلي الجانب الآخر من الجبل حيث اجتمع اليمام وهو مازال مصدوما ولم يدرك بعد الحقائق التي سمعها، فرأي اليمام علي الجانب الآخر ساكنا هادئا دائما ما يبني عشه بصبر ومداوم علي ترميمه بعد هجمات الصقور أو الرياح والأمطار مدركا الخطر الذي قد يقترب منه في أي وقت لكنه كان واثقا في عينيه المفتوحتين ومؤمنا بجناحيه الخفيفين اللذان لا يقارنوا بأجنحة الصقور العاتية ولكنهم لم يعتقدوا أبدا في ضعفها حيث أن احتياجاتهم تتساوي مع قوتهما
وتعجب الصقر من اليمام وصمودهم في هذه البيئة الخطرة ولم تفكر في هجرها أو الخضوع للاستئناس في أقفاص البشر التي يري منها الطبيعة من خلال القضبان من خلف الحاجز مثل الحمام، حيث أن اليمام لم يوجد داجنا قط ولا يبيض في الأسر أبدا وان فر ترك خلفه القفص ولا يعود أبدا وتساءل:
لماذا لم يسلك اليمام طريق الحمام؟؟!! وفضل أن يبحث عن حبيباته القليلة التي يقتاتها يوما بيوم ولم يري له مخازن قط يأكل حبة ويترك الأخرى لئلا تثقله وتعوقه عن الطيران وظل مفكرا حتى اختفاء الشمس خلف الجبل وحل الظلام
فقضي ليلته متحيرا في أمر صباحه وكيف سيبدأ حياته رغم رفضه لمبادئها، ومن فرط قلقه تمني أن لا يأتي النهار ولكن سرعان ما أقتحم نور الشمس عينيه وبدأت العصافير في زقزقتها وصفيرها دافعة كل الطيور لبدأ اليوم ولكنه قد شعر أن هذا اليوم لن يكون مثل الأمس أبدا
فأحس أن شعاع الشمس يلهب جناحيه وأصوات العصافير تخترق أذنيه وتخيل صفيرها كأبواق الحرب وتأهبت صفوف الصقور لبدأ هجماتها علي أعشاش اليمام وقد خصص له مكانا بين هذه الصفوف وقد طلب منه تحديد هدفه قبل بدأ الطيران ليضمن نجاح القنص
وعندما بدأت جميع الصقور في الهجوم بأقصى قوتها والطيران بأقصى سرعتها وجد نفسه يتباطأ حتى اصطدم بمن خلفه الذي تعجب من تصرفه، فاضطر للطيران بقوة أكثر حتى لا يتعثر بين صفوف الصقور، وعندما شعر اليمام باقتراب هجوم الصقور وفي الوقت المناسب قبل اختراق رماح الصقور صدورهم بدأوا في الهروب و الطيران وفر البعض وسقط البعض
أما الصقر عندا بدأ يقترب من هدفه بدأ في التباطؤ مرة أخري حتى يعطي لفريسته فرصة للهرب ولكنها لم تهرب، وكلما تباطأ أكثر لم تتحرك، وظل هكذا حتى اقترب فلم يجد أمامه إلا أن يقف بجانبها بدلا من اختراقها واقتناصها
وسألها متعجبا:
- لقد أعطيتيك فرصة للهرب لماذا بقيتي؟!
- ردت: لم نعتد العيش في قلق أو خوف ولا نتوقع الخطر قبل حدوثه، وعندا رأيتك مقبلا إلي لم أري في عينيك نظرة الصياد المقتنص ولكن نظرة السائل المتحير المتلهف إلي إجابة، فرضيت أن أهبها لك
- هل تقبلين المعتدي ساكنا بين أغصانك؟
- إن ترك وحشيته وان جاء إلي غير معتمد علي قوة جناحيه أو حدة مخالبه
فشعر بقوة وصلابة اليمامة التي كانت سابقا فريسته ولكنها استطاعت أن تأسره وتقتنص عقله بثباتها فقد كانت غريزة الحياة التي في عينيها أقوي من غريزة الموت التي في مخالبه، فقرر أن يسكن في أعشاش اليمام الهادئة وهجر جحور الصقور الموحشة رغم أن هذا قد يعرضه لهجوم الصقور وهو في أعشاش اليمام ولكنه شعر بارتياح وخصوصا عندما هربت الشمس إلي مخبأها، وقضي ليلته نائما حالما بصباح جديد الذي أتاه سريعا، فعادت الشمس تشرق مرة أخري علي ريشه فأعطت له بريق ولمعان ونظر إلي منقاره فوجده يقترب من الحبوب المتناثرة ليلتقط كفاية يومه فقط ولا يفكر في غده ماذا سيأكل، ووجد مخالبه وقد التفت علي الأغصان برفق بعد التحفز والتشبث وعندما رفع رأسه لينظر السماء شعر بقوة قلبه