اليوم الأول:
في صباح ذلك اليوم الذي ذهب فيه كالمعتاد إلي فرع النهر الموجود علي حافة قريته البسيطة التي تفصل بين الأشجار الكثيفة الواقعة علي مرمي البصر والصحراء التي تحتضن مجري النهر ويقبع في نهايتها الجبل الذي يرقد كالتمساح علي شاطئ النهر.
فعندما أقبل إلي حافة النهر وقبل أن يشفي عطشه بجرعات المياه العذبة، ويطفئ لهيب وجهه بشلالات المياه المتساقطة من بين يديه، رأي خلفه ما كان يقلقه ودائما ما يهرب منه، نفس الملامح الغاضبة المتحفزة تتربص به؛ الحاجبان الملتصقان، والعينان الواسعتان والأسنان المتصادمة، والهيئة المستعدة للهجوم؛ يقدم احدي قدميه عن الأخرى واليدين المقبوضتين.
أما هو فقد آثر القفز في النهر عن الالتفات والمواجهة مجهدا نفسه في العوم عكس اتجاه الريح طالبا الضفة الأخرى، لم يستطع التوقف ولا النظر إلي الخلف، وصخب المياه في أذنيه جعله لا يستطيع تقدير المسافة التي بينه وبين من يهرب منه، وعندما وصل للضفة الأخرى تشبث في أول حجر يبرز منها ؛ ذلك الحجر الذي أرجعه ورجع معه للنهر مرة أخري لأن احتكاكه بالنهر منذ زمن بعيد جعله هشا، ولكنه بعد أن تمالك قدميه وجلس علي الحافة ومازالت المياه تعبث بقدميه، بدأت الخفقات في قلبه تخف من حدتها، تلك الخفقات التي كانت تزعج آذانه عندما كانت ممتلئة بالمياه فشعر وكأن النهر كله يغلي، نظر إلي الجهة الأخرى وفكر حيث بيته البسيط الذي يعشقه مع كل حجر حمله علي كتفه ليثبته بجوار الآخر ليصبح كيان يحميه ولم يكن يقض مضجعه إلا هذا ما كان يقلقه وجعله لا يستطيع الرجوع لبيته، وشعر بعطش شديد رغم أنه كان خارج لتوه من النهر وكل كيانه مبلل ما عدا جوفه الذي كان يلتهب عطشا، فانحني مرة أخري للنهر وكان وجهه ولسانه فقط هما اللذان يتصلان بالنهر.
ثم بدأ في النظر خلفه بأيدي مرتخية وجوف قد أفرغ الإجهاد كل ما فيه يشتهي أن يسد جوعه بأي شيء، فقصد الأشجار البعيدة التي يراها بعينيه ولا يطولها بيديه، ولم يعد يفكر في بيته فهو يشعر الآن أن جوفه هو بيته الذي يريد أن يأوي إليه، فبدأ يجري نحو الأشجار والشمس تنسحب من فوق رأسه تدريجيا حتى وصل إليها وشعاع الضوء لا يكفي إلا لرؤية اليسير منها وعمقها يظهر كأشباح عملاقة ناشرة ذراعيها لاستقبال هذا الهارب الغريب، فأكتفي ببعض الثمار الجبلية الموجودة في الأشجار الأمامية وأعرض عن المغامرة إلي الأشجار البعيدة التي قد يكون بها ثمار أشهي خشية الظلام و المجهول.
فقضي ليلته علي هذه الحافة معلق بين النهر والأشجار، وكانت تلك الليلة لم يقضي مثلها من قبل؛ فهي أول ليلة يقضيها وهو هارب بلا وطن أو مأوي ولا يعرف كيف سيشرق صباحه، فنام سريعا من الإجهاد حتى قارب الفجر علي الشروق ليشعر بمن يوقظه عارضا عليه أن يرجعه لبيته، نظر إلي ملابسه فوجده صيادا ولكن ملامحه ليست بالغريبة، تحقق منه فوجده أبوه الذي ذهب إلي رحلة صيد في عرض البحر منذ سنوات عديدة وقبل أن يرد علي أسئلته وان يفصح له: كيف ومتى رجع؟!! وكيف استدل علي مكانه هذا؟!! وخزه شعاع الشمس ليوقظه من وهمه وأدرك أنه كان حلم.
اليوم الثاني:
فلما فاق ورجع عقله إلي موضعه، جلس حائرا فكره يجول بين أمرين: العودة والمواجهة أم الهروب إلي المجهول؟ ، فقال: قد يجعل الهروب من يطاردني ينساني؛ وقد أغلق الماضي بكل آلامه بالهروب، وقد أجد الجنة علي الأرض التي ليس بها حزن أو ضجر، ونظر في اتجاه الغابة متمنيا أن يجد خلفها مملكة واسعة يتوج عليها فيها الحياة رغدة ، فقرر أن يهرب من واقعه إلي حلمه وأن يطارد هذه المرة حلمه ويجبره أن يخرج من عقله إلي دنيته، فأخذ يجري بين الأشجار مرة تضربه أغصانها ومرة تعثره جذورها البارزة، ومع جريه وتجواله وجد أن الأشجار التي في العمق بها ثمار ناضجة شهية وقد منعه خوفه من المجهول من الوصول إليها بالأمس وهذا ضاعف من عزمه علي العبور ولكن الوقت مهم؛ فهو ليس له مكان بين الأشجار وعليه الوصول إلي أي مرسي قبل حلول الظلام، وهذا منعه من التمتع بثماره الطيبة وأصبح هارب ومطارد مرة أخري لكن هذه المرة من الوقت والظلام.
فلما بدأ الضوء الذي يتسرب من بين الأشجار يزيد رغم أن النهار يضمحل، شعر أن نهاية الأشجار اقتربت ولم تستطع قدماه التوقف عن الجري وعند بداية الغروب وصل لحدود الأشجار، فجال ببصره باحثا عن حلمه ومدينته الجديدة ولكنه وجد نفسه في صحراء لا حدود لها إلا ذلك الجبل الذي يقف متحديا في نهايتها، فوقع مغشيا عليه نائما حتى اليوم التالي.
وهذه الليلة لم يكن نائما ولم يكن مستيقظا لأنه أدرك أنه كالأمس هارب، فكان مغمض العينين ولكنه يشعر بكل ما حوله كثعالب الصحراء وكثيرا ما أقلقه اصطدام أغصان الأشجار مع الرياح وذرات الرمال التي كانت تتسلل إلي كل كيانه ولكنه لم يستيقظ من نومه الخفيف هذا بسبب مجهود اليوم الماضي.
اليوم الثالث:
وهذه المرة كان ينتظر ضوء النهار الذي ما كاد أن يقترب من جفنيه حتى هم واقفا مستكشفا واقعه الجديد، وآثر أن يبدأ المشوار قبل أن يبدأ حر النهار في الهجوم، ولكن أين الدرب والصحراء كلها مستوية؟!! أين الهدف ؟ أين الظلال وشمس الصحراء تجعلها كلها منكشفة؟، لم يجد إلا الجبل فهو الشيء الوحيد البارز ضمن هذا الفضاء المستوي، لم يجد مفر من اللجوء إلي أحضانه ليس لنعومتها ولكن لأنه لم يجد حضن آخر يرتمي فيه.
كان شقاء هذا اليوم يعادل مشواره الذي بدأ عندما أدار ظهره لعدوه وجري منه، وفي منتصف النهار عندما تعامدت الشمس علي رأسه ظهر من بعيد في بداية الجبل كهف عميق، ولا يعلم ما بداخل الكهف من أضرار أو أخطار ولكنه كان الملجأ الوحيد حتى لو كان ملجأه الأخير وفيه نهايته، وطال مع حرارة الشمس المشوار ولكنه وصل أخيرا، ولم يطلب أكثر من الراحة لمدة ساعتين في أغوار الكهف، فتعمق داخل الكهف لعله ينهي هذا اليوم سريعا بظلامه، وكان له ما طلبه وبعد ما استرد نشاطه قليلا بعد أن ألتهم ما بقي معه من ثمار الأشجار غير عالم كيف سيجد قوته مرة أخري؟!، خرج لمواجهة باقي النهار ولكن عندما رأت عيناه ضوء الشمس بعد طول ظلام اضطربت وانزعجت وكأنه لم يراها من قبل ولكنه لم يتعجب؛ لأن من يعيش في الظلام ينسي النور ويعتاد الظلام، فيصبح النور له صادما.
ولكن ما لبث أن يستعيد بصره حتى لاحظ واحة صغيرة علي مسافة غير بعيدة يظهر منها نخلتان شامختان وافرتان الخضرة والظلال ومياه ينبوعها يعكس أشعة الشمس بضياء أبهره، فنظر إلي بقيه نهاره متسائلا: أن كان يمتلك الوقت حتى يصل إلي الواحة؟ وكان النهار مترفقا به ومنحه ما تبقي منه ليصل لواحته، فبدأت رجلاه التي اعتادت علي الجري في عكس الاتجاه في العدو هربا ولكن هذه المرة إلي الواحة التي استقبلته بظلال نخيلها ونسيم هوائها الصادر عن ينبوعها الصافي النقي، فأسرع إليه متذكرا نهر قريته الذي كان دائما يطيب نفسه بمائه، وما لبث أن بدأ في الاتحاد مع المياه حتى رأي مطارده مرة أخري بنفس هيئته، ففزع قلبه ولكنه لم يعد يقوي علي الهروب، فثبت قدميه في الأرض مصرا هذه المرة علي المواجهة، فدقق في الصورة المنعكسة علي مرآة المياه الصافية، فوجد هذه الملامح ليست بغريبة عنه، فدقق النظر أكثر فتفاجئ أنها صورته، فهو لم يكن هاربا إلا من نفسه ولكنه كيف لم يعرف ملامحه؟َ!! ولا الحال التي أصبحت عليه؟!!! فخر علي ركبتيه ووجهه بين كفيه منهارا قائلا: كيف أقضي كل تلك الأيام هاربا ولا يوجد مطارد؟!!! كيف أهرب من نفسي؟!!! وكيف لم أعرفها؟!!! فعلي أن أنظر إلي نفسي كل يوم وأدقق في ملامحي واستشعر جروحي وأعالجها كي لا تتحول إلي ندبات مزمنة فتتغير ملامحي وأصبح غريبا عن نفسي، ولكن كيف الرجوع؟!!! هل الرجوع ممكن؟!!! هل أستطيع الرجوع؟!!! هل سأصل إلي بيتي قبل انتهاء أنفاسي من صدري؟!!! وظلت الأسئلة تجلده.
ولكنه هذه المرة لم يهرب من الإجابة، لم يختلق المبررات، لم يتصنع الأعذار، لم يعد يتوهم أي مطارد، إنما قرر أن يرجع إلي بيته بعد أن انقضي ترحاله حتى ولو قضي طريقه عليه، فالحياة ليست في الهروب.