السباحة في بحر من الرمال
فلما رأى أنه يوم استثنائي من أيام الصيف؛
فالهواء منطلق من جميع الاتجاهات والشمس محتجبة بسحابة نادرة من سحب الصيف، أعطى
ظهره للمكان وقال: "لا مانع من السباحة قليلا والتوغل بعيدا والطفو
عاليا" وأخذ يطبع خطواته على الرمال متوغلا بعيدا حتى بدأ يغوص في قلب التلال
المترامية الأطراف وبين طرقها المتشعبة المتقاطعة حتى وجد نفسها داخل كيان الجبل.
ومثل السباحة في البحار كان يفضل أن يرفع رأسه
لأعلى ليجد التلال الشامخة تهذب نفسه، فمن الجيد أن يشعر الإنسان أنه ليس أكبر
وأعظم ما في الكون، وأن ليس كل الأشياء عليها أن تدور في مداره وأن يكون هو محور
الأشياء، فوجد نفسه فعلا يسبح ويطفو على الجبال وشعر بنفس إحساسه في البحر حيث أن
نفس اللون الأوحد بدرجاته مسيطر على المحيط حوله، ولكن الفرق أنه تبدل ذلك اللون الأزرق
الهادئ بالأصفر الناري الذي يبدأ من الرمال الناعمة الشبه بيضاء، ثم الصفراء
العاكسة لشعاع الشمس، فالداكنة المختلطة بالصخور المتكسرة.
وكان عليه أن ينظم طريقة تنفسه تماما كما يسبح
في البحر، وفي بداية الأمر شعر بصعوبة السير على الرمال، ولكن لم يطل ذلك كثيرا
ووجد خطواته اعتادت على طبيعة الرمال وكان الجبل يحمله تماما كما كانت تحمله
المياه، وأما صوت الهدوء الذي لم يألفه قط في المدينة فأنه يغسل النفس كما تفعل
أمواج البحر.
وبدأ يمر بخاطره أفكار لم تطرق باب عقله من
قبل؛ فأدرك أن الغنى ليس من الامتلاك ولكن من الاستغناء، فبقدر ما يترك خلفه بقدر
ما يملك أمامه، وأن التجدد يأتي من التجرد فحينما يخفف من أثقال أحماله يتجدد من داخله، وأن
الحرية لا توجد في الزحام ولكن في الخلاء الغير محدود، ومع سرعة الأفكار صارت
قدميه أسرع على الجبال مثل الأيائل والغزلان، يتعب ولكنه لا يتوقف حيث أنه كلما
عبر تل تطلع إلى عبور تل أعلى، وكلما نظر لأسفل أشتاق أكثر إلى المرتفعات وكأن
الروح تنجذب تلقائيا إلى علا السموات، وبدأ يشعر بمعاني لم يكن يشعر بقيمتها من
قبل.
ما معنى واحة خضراء في وسط جفاف الصحراء؟!! وما
قيمة البئر الأوحد في جوفها؟!! وما شموخ النخلة العالية؟!! وما حدود مملكة
ظلالها؟!! ما معنى زهرة جبلية نابتة على جانب الطريق؟!! وصمودها فقط يعطي عبرة
للعابرين والمعتبرين !! وكيف للرحمة أن ترطب شفاه المعذبين؟!! وما أعظم أن لا يملك
الإنسان إلا موطئ قدميه !! فيصير كطيور السماء التي لا تشغل نفسها بالجمع والتخزين
فتظل حرة وخفيفة تتحرر من جاذبية الأرض بمجرد أن تفرد جناحيها للهواء.
هذا وقد طال السير وتذكر فجأة فكرة الرجوع،
ولكن كيف العودة والمحيط كله تحول إلى كيان واحد متجانس لا يفشي سر طريق الرجوع؟ ولم
يرد أن يرجع من حيث أتى لئلا تفهم خطواته هذه بالندم وقد يرى ويدرك أكثر في طريقه إلى
العودة، ولم يشأ أن ينظر إلى الوراء؛ لأن من يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء
يفسد زروعه وأماله، ولكن كيف يرجع ووجهه للأمام؟ أليست الأرض دائرية؟!! إذا نقطة النهاية
بها هي نفس نقطة البداية؛ فإن سرت للأمام قد ترجع لنقطة البداية؟ فالحياة تنتقل من
الهدوء إلى قمة الصخب ثم تنتهي بالهدوء مرة أخرى، وليس المهم هو الطريق ولكن الأهم
هو هدف الطريق، فإن تاهت الطرق وارتبطت بالهدف أدركته؛ لأن السر في الإيمان
بالطريق والحق والحياة.
لم يتوقف للتفكير أو اتخاذ القرار، ولكن أفكاره
كانت تدفعه لإكمال طريقه بكل حماس، فمن النادر أن يجد عقله ونفسه وجسده متوافقين
ومتفقين دون صراع، وكما يبحث البحار في سفينته عن الفنار لتكون علامة على وصوله للشاطئ
ظهرت من بعيد نفس المنارة التي تركها خلفه، ففرح قلبه وعاش فرحة الوصول رغم أن
أمامه آلاف الأمتار لكي يصل، ولكن عندما أبصرت عيناه انتصر قلبه، فقطعت قدماه
في خفة هذه الأمتار المتبقية حتى وصل للديار، ولم يعد له شهوة في الحياة إلا بعض
قطرات من المياه تبلل وجهه ليعود وينظر مرة أخرى إلى الجبال، وهذه المرة لم تتعلق
عيناه إلا بأعلى قمة ولم يرضى بغيرها.