كنت أنتظرك (قصة واقعية)
قصة مأساوية من واقع حياتنا اليومية، أعتذر عن كم الألم الموجود بها ولكنني أحكيها كما سمعتها وأنقلها كما رأيتها، فلم أستطع تجاهل وجود أحداثها وأشخاصها.
بادرني عندما قابلته قائلا: "كنت أنتظرك !!" فسلمت عليه وجلست بجواره أتعرف على ملامح وجهه الجديدة والتي تغيرت بفعل المرض، فلما أطلت النظر إليه، بدأ الحديث مرة أخرى قائلا: أشعر أنه يحتل كل جسمي؛ يتسلل ثم ينمو ويتكاثر حتى أختفي أنا ويبقي هو، فقد كانت حياتي عادية؛ أحمل الهموم المعتادة مثل باقي البشر وأنا راضي فأنا مثل باقي الناس وحالي كحالهم، أواجه المتاعب والمشاكل صابرا بقدر الإمكان واثقا أن الوقت قادر أن يقتل المشاكل والمتاعب ولكن يبدو أن الوقت لا يأكل المتاعب فقط ولكن يأكل كل شيء في الإنسان؛ أيامه، أحلامه، قوته وحتى بدنه.
حتى ذلك اليوم الذي ظهر لي بارزا ذلك الشيء قي رقبتي ولم أستطع أن اعرف إن كان مجرد تجمع دهني، أو هو نتيجة عادة مثل: قيادة السيارة أو حتى الجلوس بشكل غير صحيح ولكن استمراره لأسابيع وتزايد ظهوره هو ما دفعني للذهاب إلى الطبيب رغم أنه كان لا يسبب لي أي ألم في البداية.
ابتسم الطبيب قائلا: أنت محظوظ لأن الورم في مكان ظاهر ونستطيع التعامل معه والسيطرة عليه بالتدخل الجراحي ولكن لم يتمكن الطبيب من تشخيص نوعه حيث أن الطب الحديث يعتمد على التحاليل.
فسلمت بالأمر الواقع وهيئت نفسي للعملية متفائلا بما قاله الطبيب واضعا في اعتباري أنه قد يكون حميد لكني كنت قلقا لأن الطبيب قال: أنه قد لا يستطيع إزالته بأكمله لأنه قد يكون متشابكا مع الشرايين والأوردة متسائلا في حالة ترك جزء منه: هل سيظهر مرة أخرى؟؟
فلما أفقت من تأثير المخدر وجاء الطبيب مبتسما كعادته قال: قدرت أزيله كله وأرسلته للتحليل، ففرحت بابتسامته وبقوله.
أما أنا فنظرت حوله متسائلا عن كم الأدوية التي تحيطه والورقة المجاورة له دائما التي تخبره بمواعيد وأنواع الأدوية وأسماءها، فابتسمت وقلت: ها أنت الآن إذا في مرحلة النقاهة والسيطرة على المرض بعد استئصال الورم، وأكملت: مضى الكثير ولم يبقي إلا القليل.
قاطعني قائلا: لم ينتهي الأمر بعد.
فتجمدت ملامحي مصدوما.
وأكمل قائلا: طلع خبيث.
فتصنعت الابتسامة مرة أخرى وقلت: الحمد لله أنه قدر يزيله كله واعتقد أن كل ما حولك من أدوية مجرد جرعات احتياطية لتحاصر المرض وتضمن عدم عودته مرة أخرى.
قاطعني مرة أخرى: لم يكن هو الورم الأساسي؛ كان ورم فرعي، فقد كان كالجبل الثلجي الموجود في باطن البحر ولا يظهر لك إلا قمته ولا تدرك وجوده حتى تكون سفينتك قد اصطدمت به وشقها نصفين.
حاولت الحفاظ على الابتسامة المصطنعة وسألت: أين هو الورم الأساسي؟
رد وهو ناظرا للأسفل: خلف الأنف، أسفل المخ.
اتسعت عيناي دهشة وحيرة، فعندما رأى السؤال في عيني أجاب: لا ينفع معه التدخل الجراحي.
خارت قواي وانشل تفكيري ولما عجز عقلي عن إنتاج منطق أتكلم به، قلت كلمات باهتة بضعف لا تعبر عن شيء محدد مثل: هناك من يتعايشوا مع المرض سنوات طويلة ولا تنسى رحمة الله وحبه وحنانه وإنه لا يسمح لأحد بتجربة فوق مقدرته.
أما في باطني فكنت منهارا ومحاصرا مقارنا نفسي؛ فلو كنت مكانه هل كنت سأقول هذه الكلمات بهذه البساطة؟ فالقول شيء والفعل شيء آخر.
فعندما وجدني أطلت في هذه الجمل وانتهت، فأحاول إعادة بعضها بأسلوب مختلف، قال بشكل قاطع: لم أنسى كل هذا، وأنا مؤمن بمحبة الله ولم أسأل نفسي مطلقا: لماذا؟ لأني أعرف أن أصعب الأسئلة هو: لماذا؟ فهو يحوي في داخله حكمة الله التي لا نستطيع إدراكها ولكن أنا أتحدث الآن عن الألم الذي يأتيني من وقت لآخر، ألم لا يتحمله بشر بجانب أن العلاج الكيميائي نفسه مؤلم وتأثيره ملفت للنظر ولا أستطيع الهروب من هذه الألم إلا عن طريقة قرص (ترامادول) وفي كل مرة أتناوله أندهش من أمر الأصحاء الذين يأخذونه لكي يصبحوا في مثل حالتي بين الحقيقة والوهم.
وأتعجب أكثر من تفاخركم بامتلاك أكبر مستشفى لسرطان الأطفال في الشرق الأوسط وعدم السؤال: كيف وصل هذا المرض لأطفالنا بهذا الكم والحجم؟؟!! وما هي سياسات الدولة التي أوصلتنا لذلك؟ وما ستفعله الدولة للقضاء على هذا المرض؟
أما أنا فعندما سقطت كل أسلحتي في الحوار ووجدت انه من يتحدث أكثر وأنا أسمع، وأنا كنت أظن إني سآتي للتحدث أكثر وملأ فراغ وحدته وغرفته وإني سأتحدث لكي أسليه وأنسيه، قلت: لا أحد يعرف متى ستكون نهايته؟ قد يموت شخص وهو لم يمرض يوما واحدا.
ففاجئني عندما قال: تعرف إني أفضل منكم جميعا وأرى الأمور أوضح؟؟!!
لم أستطع قول" لماذا؟ رغم إنها ملحة وتصرخ في داخلي.
فلم يتركني أنتظر كثيرا فأكمل: لأنني دائما متذكر أن هذه الحياة مؤقتة وانتم تنسون ذلك دائما؛ أراها في حجمها الطبيعي الذي لا يتعدى حجم خرزة معلقة في سلسلة مفاتيحي، فانا متعجب من صراعاتكم واختلافاتكم وحتى جدالكم في الباطل ومحاولة كل شخص أن يكسب معركة يتوهمها وأنا مؤمن الآن إنها لا تستحق صراعكم ومعاناتكم من أجلها.
كل واحد فيكم ينسى إنه ضعيف لا يملك في بدنه أو نفسه شيء ورغم ذلك يتصرف كأنه امتلك الأرض كلها، ويريد أن يضمن لذاته كل سُبل النعيم والترف في الدنيا رغم أنه لا يستطيع أن يضمن لصدره نَفَس يدخل بدلا من الطالع منه، يجري في الطريق الخطأ دائما.
فانا لا أخشى مواجهة الموت لأنني أتعايش معه الآن وقد اعتدت عليه، فإن طالني سيريحني من ألمي والجسد الذين تحرصون على تدليله، هو ما يحمل لي الألم فلن أحزن إن فقدته، أنا اتجه إلى الروح الآن وابحث عن مصيرها وما يريحها بعد هذه الحياة التي مهما طالت فهي قصيرة وتحمل الألم في ثناياها، فأنا أتجه إلى الله الآن لأنه بيده كل الأمور.
أثناء استماعي لكلماته ناظرا للأرض وقعت عيني على الساعة المعلقة بمعصمي تصاحب نبض يدي التي تحسب الوقت الفائت الضائع مني فقط ولا تستطيع أن التنبؤ أو احتساب الوقت المتبقي، أدركت إني قضيت بجواره ساعة كاملة لم يتطرق ذهني لموضوع آخر عكس عادتي في الدخول من موضوع لآخر وكأني أريد أن أجمع أمور العالم كله في قبضتي.
أما هو فأمسك بورقته المجاورة له لمراجعة مواعيد الأدوية وما اقترب أو بَعُد منها خصوصا إن الألم بدأ يعود له ويظهر على وجهه وكان يتركه لفترات قصيرة ولكنه لا ينساه أبدا.
فوقفت وسلمت عليه وأخذت طريقي إلى باب الحجرة وأنا أشعر إني لن أخرج كما دخلت ويبدو إن الألم لم يكن يتسلل إليه تدريجيا ولكن كان يهاجمه فاجأه بشراسة وبكامل قوته، فلما أغلقت الباب ورائي سمعت صوته شبه صارخا ولكنه مختنقا قائلا: "كنت أنتظرك !!"