الاستغلال
يوجد بعض
الكلمات التي لها أثر سلبي في النفس عندما نسمعها بغض النظر عن معناها الحقيقي؛
فمثلا كلمة "استعمار" تأتي من "التعمير" ولكن
السياسات التي صاحبتها جعلت المعنى المباشر لها يعني استيلاء بلد على أرض بلد آخر،
وكذلك كلمة "الاستغلال" فالمعنى المباشر لها هو الانتفاع وعكسها "الإهدار"؛
أي إنها تحمل في باطنها معنى إيجابي أيضا ولكن المشكلة في الظروف والأحداث التي استخدمت
فيها هذه الكلمة فجعلت السمة القريبة المباشرة لها سلبية.
فهل
الاستغلال شيء سلبي أم إيجابي؟ كما هو معروف أن الإنسان هو رأس الكون وله أن
يستغل كوكب الأرض بطبيعته وثرواته وخيراته بما لا يضر الطبيعة أو ينتهك حق إنسان
آخر، إذا فالاستغلال للأشياء يكون مقبولا إذا كان باعتدال وأما استغلال الأشخاص
فهو الوجه الآخر لمعنى هذه الكلمة.
وربما هذا
المعنى هو الغالب على أذهاننا، فاستغلال الإنسان لإنسان آخر للوصول إلى رغبات
ومصالح شخصية دون مراعاة حقوق الإنسان المستَغَل فهو قمة الدونية وازدراء للمبادئ
الإنسانية، وقد تفنن الإنسان في استغلال الإنسان، وعادة ما يكون الاستغلال للآخر الأضعف
كالمرأة والطفل.
فالعبودية أسوأ وأقدم صور
الاستغلال لأنها تسمح لإنسان باستعباد واستغلال إنسان آخر أضعف في القوة البدنية
أو الإمكانيات المادية ؛ فقديما كان من لا يستطيع سداد ديونه يباع كعبد هو أولاده
حتى يفي بدينه.
وهناك
أيضا استغلال بالتضليل أو الاستغلال الفكري
وهذا النموذج موجود بشكل كبير في المجتمعات الثيؤقراطية (الدينية) وفيها يقنع فيها
الشخص المستغِل الآخرون المُستغَلون بأنه يعرف أكثر وأفضل منهم فيقودهم كعميان إلى
المجهول ويكونون عميان قادة عميان فهم يحملون الناس أثقال كثيرة ولا يمسوها بأطراف
أصابعهم .
أما
الاستغلال في العمل، فقد يتم استغلال العمال إذا طبقت
نظرية "العرض والطلب" على الإنسان فيستغل صاحب العمل قلة الفرص لاقتطاع
أجزاء من حقوق العمال.
أما
الإنسان المستَغَل فله نوعان: الأول هو الذي يتم استغلاله قسرا دون رغبته، وهذا يشعر في
داخله بالمرارة الدائمة وينتظر الفرصة المناسبة لكسر قيد الاستغلال ودائما ما يصفه
من يستغله بالمتمرد أو الناقم أو المتنمر، أما النوع الثاني فهو المستغَل
وهو لا يشعر وهذا النوع أكثر ارتياحا، ولكنه في الحقيقة أكثر بؤسا؛ لأنه لم تنفتح عيناه
بعد على حقوقه أو أن عيناه انفتحت على واقعه وهو لا يعرف إنه مستغَل.
أما من
يستغِل فمنهم أيضا نوعان: الأول مَن يبرر
لنفسه بأنه كان ضعيف وعندما صار قوي عليه أن يفعل كما فعل به الأقوياء وهذا النوع
يشعر بخطأه ولكن يبرره، أما النوع الآخر فهو المُغَيب والذي يرى فعلا إن من
حقه استغلال الآخرين وتحريكهم حسب أهوائه بطيب خاطرهم وكامل موافقتهم.
ولكن هل
فكرت يوما لماذا عندما ترى إنسان تحت الاستغلال لا تحزن من أجله وتعتبره شيء عادي؟ هذا لأن المستغَل عندما يكون راضي يفقد تعاطف الآخرين معه عملا
بالمبدأ القائل: "من يقبل على نفسه شيء يقبله الآخرين عليه، ومن لا يحزن
على نفسه لا يحزن الآخرين عليه" وهذا مبدأ شائع رغم بشاعته حتى أن
المستغَلين لا يتعاطفون من أجل بعضهم بحجة إنهم (في الهوا سوا) أو إنه لا مفر من
الاستغلال.
ربما تشعر
الآن بالثورة على مظاهر الاستغلال حولك ولكن ليس هذا هو الهدف، ولكن الهدف هو
التعاطف مع مَن هم في ضيقة الاستغلال؛ لأنه ربما يكون الإنسان مستغَل ومستغِل في
نفس الوقت نتيجة الانجراف مع التيار.