Monday, January 16, 2012

النسيان ... قصة قصيرة


كان مازال واقفا بمنتصف الميدان شاهرا سيفه ودرعه في اليد الأخرى ويرتدي ملابس الفروسية الحامية بأكملها ورمحه مغروس بقلب أحد أعدائه، وتراب المعركة يلهب أبصار أعدائه المحيطين به، أما هو فكانت خوذته تحمي عينيه وتركز فكره حتى باغته نور شديد في عينيه اختفت أمامه جميع هذه المشاهد السابقة، أنه نور النهار الجديد الذي أشرق عليه، فقد كان يكمل معركته أثناء نومه ناسيا أنه ترك الفروسية منذ زمن وفضل أن يرتدي رداء التجار ليربح حريته قبل تجارته، ولأنه لم يعد يقتنع بالحروب التي يُدفع إليها مرغما.

ولكن فكر الفارس مازال مسيطرا علي ذهنه، فمنذ صباه ترسب في عمق فكره صورة الفارس الشجاع الممتطي لجواده الأبيض غارسا رمحه في فك تنين قوي الشر الذي يحاول الهرب منه ويملأ وجه الفارس علامات الثقة والاطمئنان ومازال سيفه قابعا في غمده منتظرا دوره في الظهور وملابسه الواقية الشامخة ورداءه الطائر خلفه الذي ينبأ أنه جاء مسرعا وتقف في الخلف فتاة راضية مطمئنة ناظرة نصره ومنتظراه، وكان أيضا يستغرب ويستهجن الفارس الآخر  الذي أراد غزو الكون كله وكان سيفه هو صديقه الوحيد والحروب غايته وليست وسيلته، ويبدو أنه لم يكن يعرف أن الأرض دائرية؛ نقطة النهاية بها هي نفس نقطة البداية، وما زال يذكر كيف وقع ذلك الفارس وهو في قمة مجده وشبابه، ولم تبقي له إلا المدينة المسماة باسمه التي تقف أمام البحر ناظرة ومتذكرة كم من أمواج وعواصف حلت عليها حتى تقوقعت حول نفسها وفضلت أن تعطي ظهرها للبحر وتتجه للصحراء وتتحصن بها وبمبادئها وأفكارها فلفحتها رياح الصحراء، وهنا وجد أن ذاكرته الصوانية لا تنسي ما مر بها يوم قط وظن أن مخه لا يغذيه الدماء ولكن الذكريات، وهنا تذكر أنه صار تاجرا ولكنه تاجر برتبة فارس.

لم يمتطي في هذا اليوم ظهر حصانه، ولكن سفينته التجارية المحملة بالقمح الذهبي الذي يداعب أشعة الشمس وكانت رحلته من بلاد الرخاء إلي الأراضي القاحلة الجائعة، وكانت هذه رحلته الشتوية التي تجعله متأهبا للتصدي إلي تقلبات الطبيعة بجانب مخاطر القراصنة، وتساءل كثيرا: لماذا كان البحر هو وطن القراصنة؟ ولماذا لم يسكنوا اليابسة؟ وظن أن ذلك لأن الأرض لها حدود بعكس البحار؛ فإن سكنوا الأرض، فسيسهل اقتناصهم، فمن الصعب أن تحارب فكر وطبيعة يمكن أن تسكن أي مكان، ومن السهل أن تحاصر عدو في أرضه، فالأول لا تعلم أين مكان المواجهة والثاني قد يجنح للسلام للحفاظ علي أرضه.

طفت هذه الأفكار علي سطح ذهنه كما تطفو سفينته علي سطح بحره، ولما توغلت سفينته في قلب البحر تغيرت كل المفاهيم في ذهنه، فقد زالت كل الألوان من أخضر واصفر وحتى الترابي ولم يبقي إلا اللون الأزرق حوله وفوقه، ويظهر الأبيض قليلا في السحب والأصفر منفردا في الشمس وفي الغروب تتحول جميعها إلي لون شاحب وفي الليل إلي الداكن ومعها يتحول القلب تدريجيا من الانشراح إلي الانقباض ثم الانشراح مرة أخري مع شروق اليوم الجديد، والطبيعة الجديدة في البحر المحيط به علمته أنه لا يوجد شيء ثابت وأن أي شيء قد يتبدل حاله فجأة.

وفعلا في تلك الليلة عندما اشتدت البرودة وبدأ في الانكماش حول نفسه، بدأ يسمع صوت الرياح التي طالما أقلقه سماعها وتحولت من مجرد صفير إلي صراخ وحملت معها ثورة الأمواج حوله ثم انهالت الأمطار الشديدة من السماء جعلت السفينة تترنح كشارب خمر دون وعي.

وكان يعلم أين يجب أن يكون الآن، حيث دفته التي تتقدم السارية التي تحمل الشراع الرئيسي، ومع تزايد الأمطاروعلو الأمواج لم يعد يعلم ما مصدر الثورة والفوران من فوقه أم من تحته؛ فقد أصبح وسطه المحيط به هو مياه اختلط منها المالح من أسفل بالعذب من أعلي، وظلت الأمواج تجلد سفينته بسوط مياهها دفعات متتالية، ولم يكن أمامه سوى اختيارين: الأول هو المقاومة عكس التيار حتى لو أدي للانكسار ولكنه سيظل محافظا علي مساره، والثاني هو إرخاء الأشرعة وتحرير الدفة حتى تتفاعل السفينة مع الأمواج والرياح رغم أنه قد يفقد مساره في البحر ورغم ميله للخيار الأول بدأ في تنفيذ الثاني مرغما وظل مع بحارته يسايرون الأمواج حتى ظهر أول ضوء لشعاع شمس اليوم الجديد وبدأت تهدأ السماء وأمواج البحر وبالتالي بدأت تهدأ أعصابه المتشنجة وبدأ يرجع عقله له.

فتذكر تلك العينان البنيتان الداكنتان التان كانتا تنظران إليه من بين الأمواج ومن خلال الأمطار، وقد كان يسمع نبض قلبه بقوة في أذنه مثلما كان يسمعه يرن من داخل رداءه الحديدي أثناء حروبه وتلمع في الأفق نفس العينان وكثيرا ما تَلَمس صدره ليشعر بنبض قلبه ربما ليهدأ أو ليستمد منه القوة الدافعة ليواصل.

نظر حوله فرأي كل شيء حوله صافيا بعكس ما كان ولكنه لم يعرف مساره؛ فقَد فقد طريقه الوهمي في البحر وحتى بوصلته لم تساعده كثيرا، فقد صارت مهتزة مترددة ولم تستقر علي اتجاه وعرف انه في الأيام القادمة سينتظر ظهور علامة مميزة في الطبيعة حوله حتى يستطيع معرفة مكانه مستعينا بالخرائط البحرية التي معه وهي نتاج سابقوه من البحارة الناجون من التهام البحر، واستمر في متاهته أيام لم يهتم بعددها واستمر مع بحارته في استهلاك بضاعته من القمح.

حتى ظهر في صباح أحد الأيام التي تبدو صافية فجأة غيمة في الأفق، فلما صعد أحد البحارة لأعلي الساري مستعينا بمنظاره المكبر المقرب رأي راية القراصنة التي تحمل جمجمة وعظمتان متقاطعتان ولما أبلغ قائده أدرك أن الموت يقترب، فمن العجب أن نجد من يحيا علي الموت ويكون شعاره والأعجب أن يمنحه للآخرين ويبقي هو حيا.

وهذه المرة كان أمامه خيار واحد وهو المقاومة، فلن يستطيع إرخاء الأشرعة كما في هجمة الأمواج وخصوصا أن الرياح كانت تساعده، فأمر الجميع بالتأهب وفرد جميع الأشرعة والسير في اتجاه الريح، وأدرك أن المواجهة قادمة، فعمل علي ألا يصلوا إلي الدفة أو السارية الرئيسية التي تحمل الشراع، أما إذا أصيبت حواف السفينة، هان ترميمها فيما بعد، وكان في سباق مع الزمن وسمع نبض قلبه بأذنه كما في وقت المعركة وتحسس صدره فوجد قلبه يرتجف تحت يده ولمعت في خاطره أيضا تلك العينان اللتان تنظره وتنتظره ولكنه وجدها هذه المرة عسليتان تتخللهما شعاع الشمس، فطرأ علي فكره خاطر وتبعه فورا، وهو أن يجنح إلي المياه الضحلة التي رآها مقبلة حين صار لون المياه أغمق رغم أن في ذلك مخاطرة؛ فربما تكون هذه المياه الغامقة هي جزيرة غاطسة صخورها متركزة قد تصيب سفينته بعد أن يصطدم بها ولكنه كان يراهن علي الوقت حيث أدرك أن القراصنة مثل القروش والحيتان لا تقرب اليابسة إلا في وقت احتضارها، وفعلا نجحت فكرته وبدل القراصنة مسارهم بفعل غريزتهم فهدأ قلبه مرة أخري، وانحرف هو بدوره أيضا ليبتعد عن اليابسة.

ظل في متاهته أيام أو أسابيع أو ربما شهور أخري لا يعرف عددها كان يتحسس صدره خلالها باحثا عن قلبه ولكنه لم يجده؛ ربما ذاب داخل جسده أو ربما تحول جسده كله لكيان نابض، حتى ظهر مرة اصفرار للأرض ويتلوه اخضرار لبعض الأشجار، فاتجه إليها ولم يعد مهتما إذا كانت هذه هي أرضه التي يسعي إليها أم إنها أي أرض، وفي كل الأحوال لن تكون مختلفة كثيرا عن الأرض التي يريدها.

فلما لامست قدماه الشط نظر خلفه لسفينته المترنحة بفعل الصدمات والهجمات المتتابعة والتي كانت شابة من قبل، تحسس صدره لعله يجد قلبه ينبض فلم يجده، ونظر في الأفق فلم ينظر العيون التي تنتظره والأفق خلي إلا من رموش مغلقة تنحدر من بينهما دمعة، وضع يده علي رأسه ليتذكر أنه قد نسي شيء واحد فقط هو نفسه وسط الأمواج والهجمات، بين الأيام والفصول المتعاقبة، هل كان صراعه من أجل الحياة؟ أم أنه صراع الحياة؟ فلم يعد يقوي علي الحروب ولم يعد يشتاق إلي العودة و لم تعد هذه العيون تنظره أو تنتظره.

No comments:

Post a Comment